النوبة: أسرى الجغرافيا (الجزء الثاني)

جمود 

حقق المتمردون، الذين أصبح اسمهم الآن الجيش الشعبي لتحرير السودان - قطاع الشمال والذين يتكونون إلى حد كبير من بقايا المجموعة التي فازت باستقلال جنوب السودان، مكاسب سريعة.

 ولكن في غضون أشهر، أوقفت القوة الجوية المتفوقة التي يمتلكها نظام البشير هذا المد. واستخدمت القوات المسلحة السودانية وميليشيا الجنجويد من دارفور، التي أُعيدت تسميتها لتصبح "قوات الدعم السريع"، الشاحنات الخفيفة المثبت عليها مدافع رشاشة لشن غارات بسرعة البرق على قرى يُشتبه في أنها تأوي أو تدعم المتمردين.

وخلال وقت قصير جداً، تشكل نمط كئيب.

"كل المؤشرات تشير إلى دخول الصراع في حلقة مفرغة أصبحت فيها الخرطوم غير قادرة على طرد المتمردين المختبئين في جبال النوبة، والجيش الشعبي  لتحرير السودان - قطاع الشمال وحلفاؤه غير قادرين على الاحتفاظ بكثير من الأراضي في المناطق المنخفضة،" كما أوضحت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير صدر في فبراير 2013.

وأضاف التقرير أنه "يبدو على الصراع كل علامات الجمود الاستراتيجي، حيث يأمل كل طرف أن تؤدي الضغوط المفروضة من أماكن أخرى إلى تغيير حسابات عدوه. مع ذلك، يستمر الصراع في حصد عدد رهيب من الضحايا، وخصوصاً في صفوف المدنيين".

وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الشعبي لتحرير السودان - قطاع الشمال هو قوة أكبر ولديها موارد أفضل من وحدة النوبة التي حاربت ضد حملة الإبادة التي شنتها الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي، ويُعتقد أن عدد أفراد الجيش يصل الآن إلى 30,000 جندي، وقد احتفظوا بأسلحة متطورة عندما انشقوا عن جيش جنوب السودان.

 وعندما انضم الجيش الشعبي لتحرير السودان - قطاع الشمال إلى اثنين من الجماعات المتمردة في دارفور، حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان في نوفمبر 2011، منحه هذا التحالف، المعروف باسم الجبهة الثورية السودانية، قوة عسكرية وسياسية أكبر، وبالتالي أصبح بمقدور أولئك الذين يحاولون الإطاحة بالبشير أن يهاجموا قواته على جبهات متعددة.

 وبحلول عام 2013، كان البشير قد نشر ما بين 40,000 و70,000 جندي في جنوب كردفان، وفقاً لتقرير مجموعة الأزمات الدولية. وتمت استمالة القبائل العربية المحلية، المسيرية، مرة أخرى من قبل الخرطوم لمحاربة خصومها من الأفارقة ذوي البشرة السوداء.

تدهور الأوضاع الإنسانية

ومنذ أبريل 2012، سقط ما يقرب من 4,000 قنبلة على مناطق مدنية في جنوب كردفان، بمتوسط يتراوح بين ثلاث وأربع قنابل في اليوم الواحد. 

مدنيون يقفون فوق حفرة أحدثتها قنبلة أسقطتها قوات الحكومة السودانية في جنوب كردفان، السودان، 17 يونيو 2013.

مدنيون يقفون فوق حفرة أحدثتها قنبلة أسقطتها قوات الحكومة السودانية في جنوب كردفان، السودان، 17 يونيو 2013.

ومن بين 4,577 شخصاً لقوا حتفهم في الفترة من يونيو 2011 إلى مايو 2015، كان هناك ما يقرب من 500 مدني أعزل، وفقاً لبيانات مشروع مواقع وأحداث النزاعات المسلحة (ACLED).

 من جانبه، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن أكثر من 565,000 شخص في الولاية بحاجة إلى مساعدات إنسانية، من بينهم 184,600 نازح على الأقل.

 وقالت كوندا من منظمة النوبة للإغاثة وإعادة التأهيل والتنمية: "عندما بدأت الحرب في عام 2011، كان الوضع سيئاً، وهو يزداد سوءاً كل عام. في البداية، باع الناس ممتلكاتهم، ثم باعوا مواشيهم، والآن بدؤوا حتى في بيع الأواني لأنهم يتضورون جوعاً".

 وقد شهد العام الماضي زيادة بنسبة 55 بالمائة في عدد القتلى المدنيين مقارنة مع عام 2013، وإذا طرأ تغيير على الوضع في عام 2015، فإنه سوف يزداد سوءاً.

 وأفادت مصادر على الأرض أن أكثر من 160 قنبلة سقطت في مناطق مدنية خلال شهر مايو، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص على الأقل. وتم قصف بعض المواقع لعدة أيام متواصلة وشوهدت طائرات بدون طيار تستطلع الكنائس والمدارس قبل استهدافها أيضاً. ويُقال أن طائرات مقاتلة أسقطت أربع قنابل عنقودية في 27 مايو في نفس المنطقة - وادي كاودا - حيث كانت إحدى القنابل قد قتلت طفلين قبل ذلك ببضعة أيام وأصابت والدتيهما بجروح أيضاً في الهجوم ذاته.

 وقد انسحبت منظمة أطباء بلا حدود من جنوب كردفان في يناير بعد قصف عيادتها للمرة الثانية، وتركت الطبيب توم كاتينا في مستشفى ماذر أوف ميرسي (Mother of Mercy)، وهو أخر جراح في جبال النوبة، ويقوم بإجراء حوالي 1,000 جراحة سنوياً.

وفي ديسمبر الماضي، تعهد البشير بإنهاء جميع النزاعات في السودان قبل الانتخابات التي جرت في أبريل 2015.

 وفي أعقاب عملية "الصيف الحاسم" في عام 2014، دشن عملية "الصيف الحاسم 2" في بداية هذا العام، ولكن على الرغم من خطابه المنمق والارتفاع الشديد في حدة القتال، لم تكد الخطوط الأمامية تتحرك منذ بدء النزاع قبل أربع سنوات.

 ولأن نظام البشير يحظر على الصحفيين الوصول إلى ولاية جنوب كردفان، فمن الصعب جمع الأخبار، في حين أصبحت الإغاثة الإنسانية رهينة معضلة مستحيلة؛ حيث تصر الحكومة على أن تقديم المساعدات إلى مناطق المتمردين يجب أن يتم تحت إشراف مسؤوليها حتى لا تذهب إلى المتمردين، ولكن الجيش الشعب لتحرير السودان - قطاع الشمال، الذي يخشى تسلل جواسيس البشير، يقول أنها يجب أن تأتي فقط من المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومة.

 والنتيجة هي خضوع منطقة جبال النوبة، التي من الأدق وصفها بأنها مساحة كبيرة من التلال، بالفعل لحصار مستمر.

وعندما تشتد وتيرة القتال، يحاول البعض الهرب. في بداية هذا العام، كان أكثر من 500 شخص يفرون من جبال النوبة كل أسبوع إلى مخيمات اللاجئين في جنوب السودان، التي لا تعتبر ملاذاً آمناً نظراً لوجود حرب أهلية تدور رحاها في جنوب السودان، كما أن الطائرات السودانية متهمة بشن غارات جوية منتظمة هناك أيضاً.

جهود السلام

وبعد فوزه بأكثر من 94 بالمائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية في شهر أبريل الماضي، أدى البشير اليمين الدستورية في 2 يونيو ليبدأ فترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات أخرى، ولكن المتمردين اعتبروا وعوده بتوحيد البلاد وعرضه منح "عفو شامل" مجرد عبارات جوفاء.

 وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على تبني مجلس الأمن الدولي للقرار رقم 2046، الذي يدعو إلى تسوية الصراعات في أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق عن طريق التفاوض، أُصيبت عملية السلام بالشلل. كما أن العقوبات وحظر تصدير الأسلحة غير مؤثرين لأن نظام البشير مدعوم باستثمارات كبيرة من الصين وقطر وإيران والمملكة العربية السعودية.

 وقد سعى الاتحاد الأفريقي، الذي قام بجهود وساطة لتحقيق السلام تحت قيادة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي، إلى "تزامن" المفاوضات حول أبيي والنيل الأزرق ودارفور وجنوب كردفان، ولكنها لا تزال عمليات مختلفة.

“لقد تم التوقيع على الكثير من الاتفاقيات، وأستطيع أن أقول لكم بكل ثقة أنه لم يتم الالتزام بأي منها. لقد مرت أربع سنوات منذ تشكيل فريق الاتحاد الأفريقي الرفيع المستوى المعني بالتنفيذ ولكنهم لم يتقدموا بوصة واحدة إلى الأمام. والناس يموتون كل يوم”
— نجوى كوندا

وقد طغت الحرب الأهلية في جنوب السودان والفظائع المرتكبة في دارفور على الجهود المبذولة لمساعدة النوبة التي لم يلحظ أحد ذبولها. وتم تأجيل الجولة الأخيرة من المحادثات حول جنوب كردفان إلى أجل غير مسمى عندما اندلع قتال عنيف في ديسمبر الماضي.

 "بالنظر إلى الوضع في جبال النوبة، من غير المقبول حقاً أن يظل المجتمع الدولي صامتاً طوال هذا الوقت،" كما قالت كوندا، مضيفة أن "الحرب في السودان ليست شيئاً جديداً، والمجتمع الدولي يعرف تكتيكات حكومة عمر البشير جيداً. إنهم لا يأتون إلى طاولة المفاوضات ساعين حقاً لحل هذه المشكلة، بل يأتون فقط لكسب الوقت،" كما أضافت.

 وقد قدم تقييم خط أساس الأمن الإنساني (HSBA) للسودان وجنوب السودان، وهو مشروع بحثي مدعوم من قبل الأمم المتحدة، تقريراً مفصلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة في نهاية يناير.

 "يُقال أن الغالبية العظمى (من الانتهاكات) ارتُكبت من قبل القوات الحكومية أو الموالية للحكومة،" كما أفادت الدراسة، وسلطت الضوء على "القصف الجوي العشوائي والمستهدف في المناطق المدنية، وتجنيد الأطفال، والاغتصاب الجماعي للنساء والفتيات، واحتجاز المواطنين بشكل غير قانوني في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة".

 وقد بدا فشل المجتمع الدولي في التصرف واضحاً في حديث شخص أجرت معه المبادرة الدولية لحقوق اللاجئين مقابلة في شهر أبريل ولكن لم يتم الكشف عن هويته.

“إن صمتكم عار على البشرية”
— شخص أُجريت معه مقابلة ولم يتم الكشف عن هويته

ونُقل عن هذا الشخص قوله: "إنني أبعث بصوتي عالياً إلى المجتمع الدولي ومجلس الأمن لمنع هذه الحكومة من قتل مواطنيها وحمايتهم".

 وفي مواجهة ما يعتبرونه تهديداً متجدداً لوجودهم، يعرف المنضمون إلى صفوف المتمردين النوبيين جيداً ما هو على المحك.

 وقال ثاير عروة حمدان سعيد، وهو مجند جديد في صفوف المتمردين: "أنت تريد أن تسألني لماذا أقاتل؟ بعد انفصال الجنوب، قال عمر البشير أن السودان الآن دولة عربية إسلامية تحكمها قوانين الشريعة الإسلامية".

 وأضاف في حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "ينبغي عليهم أن يدركوا ويضعوا في اعتبارهم أن هناك أشخاصاً آخرين يعيشون معهم في هذه المنطقة الجغرافية التي تُسمى السودان. ولهذا السبب، إذا لم نتمكن من الإطاحة بهذه الحكومة، سنكون مواطنين من الدرجة الثانية في بلادنا".