تقرير: لويز هانت في بانجول، غامبيا
لقد مضى أكثر من شهر منذ أن تلقت نيني سانيه أية أخبار عن ابنها محمد الأمين* البالغ من العمر 26 عاماً. فكل ما تعرفه هو أنه غادر منزله في غامبيا مصمماً على الوصول إلى أوروبا من ليبيا على متن قارب تهريب.
إنها الآن تنظر إلى صورة على هاتف محمول لابنها وهو على متن فينيكس، وهي السفينة التي أنقذته من قارب صيد منكوب في البحر الأبيض المتوسط وأوصلته سالماً إلى إيطاليا.
وقالت "البركة، البركة"، معربة عن امتنانها وشعورها بالارتياح لأن ابنها لا يزال على قيد الحياة.
"أنا سعيدة جداً، سعيدة جداً لرؤيته بخير. لم أكن أستطيع الأكل أو النوم. وكنّا قلقين للغاية بشأنه. لم نكن نعرف ما إذا كان قد عبر البحر أو ما حدث له،" كما أوضحت.
تعيش أُسرة سيساي في قرية على أطراف مدينة بريكاما المترامية الأطراف، وهي المحطة الأولى للكثير من المهاجرين الغامبيين الذين يغادرون المناطق الريفية الفقيرة. ويُعتبر وسط مدينة بريكاما مركزاً لأكشاك السوق والتجار، ويصطف في شوارعه المليئة بالحفر تجار الحديد ومحلات الإطارات، فضلاً عن صفوف من النساء اللاتي يبعن المانجو.
يقع مجمع سيساي في طريق ترابي تغمره المياه، حيث تُستخدم أكياس الرمال والطوب الخرساني المجوف للسير عليها عبر برك نتنة تغطيها الطحالب.
هذا المجمع هو مكان إقامة والديّ الأمين و11 طفلاً، من بينهم أطفال شقيقه الأكبر با وزوجته.
"هل ترين كيف نعيش هنا؟ لهذا السبب أراد الأمين الرحيل: للبحث عن حياة أفضل،" كما يقول با أثناء وقوفه في الشرفة، تحت سقف من الصفيح الذي يشع حرارة.
لا توجد فرصة
غامبيا هي واحدة من أصغر الدول في أفريقيا: قطعة من الأرض تشبه الأصبع الذي يحيط بنهر يحمل نفس الاسم، ويبلغ عدد سكانها أقل من مليوني نسمة. مع ذلك، فإنها تُصنّف باستمرار ضمن الدول الست التي يخرج منها أكبر عدد من المواطنين عبر الطريق الأوسط في البحر الأبيض المتوسط، الذي يربط بين ليبيا وإيطاليا.
يهاجر مواطنو غامبيا تقليدياً سعياً وراء الثراء، ويستقرون في جميع أنحاء غرب أفريقيا، ومناطق أبعد من ذلك بكثير. وقد شكلت التحويلات النقدية من الخارج 20 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014، وفقاً للبنك الدولي. وفي ثمانينات القرن الماضي، كانت الوجهة المفضلة هي الدول الاسكندنافية، وهي صلة عززتها الأصول السويدية لصناعة السياحة في غامبيا. وفي التسعينيات، كانت ليبيا الغنية بالنفط في عهد معمر القذافي هي الوجهة المفضلة.
ولا توجد فرص كثيرة في الوطن بسبب اقتصاد غامبيا المتخلف، لا سيما بالنسبة للشباب. وقد انكمش معدل النمو إلى -0.7 بالمائة في عام 2014، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأثير ذعر الإيبولا على السياحة وتأثير قلة الأمطار الموسمية على القطاع الزراعي الشديد الأهمية.
"الطريق الخلفي" هو الطريق الوحيد
لم يكن الأمين عاطلاً عن العمل (كان يعمل بنّاءً لدى عمه في السنغال)، لكنه لا يرى مستقبلاً حقيقياً لنفسه أو أسرته، التي شعر بأنه مُلزم بمساعدتها.
قرر الأمين أن يفعل شيئاً دراماتيكياً في محاولة لتغيير ظروفهم المعيشية. وبفضل بعض التمويل من شقيقه الأكبر الذي يعمل في غينيا-بيساو المجاورة لكي يبدأ رحلته، خاطر بحياته للسفر في ما يُعرف في غامبيا باسم "الطريق الخلفي": رحلة يبلغ طولها 5,000 كيلومتر عبر منطقة الساحل إلى ليبيا غير الآمنة، ثم عبور بحر محفوف بالمخاطر إلى أوروبا.
عندما تم إنقاذه من قارب صيد مكتظ بالمهاجرين واللاجئين الآخرين في شهر يوليو الماضي، كان الشيء الشخصي الوحيد الذي يحمله هو ورقة من علبة سجائر كان قد كتب عليها دعاءً إسلامياً وأرقام هواتف عدد قليل من الأقارب وصديق مُقرّب.
بعد صعوده بأمان على متن فينيكس، وهو قارب تمتلكه محطة المساعدة البحرية للمهاجرين (MOAS)، وهي مبادرة بحث وإنقاذ ممولة من القطاع الخاص، أوضح للمصور جيسون فلوريو، الذي يعمل على متن السفينة، سبب قبول العديد من الشباب الآخرين من غامبيا لهذا الخيار الشديد الخطورة.
"الوضع في غامبيا ليس جيداً، وليس لدي أي شيء. إنه الفقر، هذا جزء من السبب، لأنك هناك تهدر وقتك دون أن تفعل شيئاً ... ولذلك تسأل أصدقائك في أوروبا وسوف يقولون لك: الوضع هنا على ما يرام، على الأقل سوف تجد وظائف".
الأمين هو واحد من أكثر من 5,500 مواطن غامبي نجحوا في عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا من ليبيا في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية.
الطريق الصعب إلى "الجنة"
كانت هناك محطات عديدة خلال رحلة الأمين ساورته خلالها شكوك في صحة قراره.
"قضينا ثلاثة أيام في في الصحراء(الليبية). لم يكن لدينا طعام ولا ماء. وقلت لنفسي: يالها من تضحية ضخمة أقدمت عليها. يموت الكثير من الناس في الصحراء، ولكنني مضطر للقيام بذلك، كما تعلم. قلت لنفسي: سأحاول لأن أصدقائي الآخرين عبروا البحر. إنهم في أوروبا، سأحاول أنا أيضاً، وقد لا أموت. ولكن هذا ليس بالأمر الهين".
وبعد أن دفع بعض المال لأحد المهربين في ليبيا مقابل رحلته إلى إيطاليا - الأموال التي جمعتها له أُسرته في الوطن - احتُجز في ظروف بائسة حتى اكتمل ركاب القارب.
وقيل للمهاجرين أن يختاروا رباناً من بينهم ويشتروا بوصلة خاصة بهم لمساعدتهم على الإبحار. وسرعان ما ضلوا الطريق ونفد الوقود. ولحسن الحظ، رصدتهم طائرة هليكوبتر بعد أن اتصل أحد الركاب بصديق في إيطاليا لتنبيه خدمات الطوارئ.
وفي طريقه إلى ميناء بوزالو للبت في أمره من قبل سلطات الهجرة الإيطالية، أشرق وجه الأمين عندما سُئل عن شعوره: "عندما تقطعت بنا السبل قلت لنفسي: سوف أموت مثل إخواني الآخرين، ولن أرى والديّ مرة أخرى. لم أعتقد أبداً أنني سأنجو. أشعر وكأنني في الجنة".
وقال أن أول شيء سيفعله هو الاتصال بشقيقه لإخبار أُسرته أنه لا يزال على قيد الحياة. "سوف أتصل وأقول لهم: لا تدعوا أياً من إخواننا يسلك هذا الطريق لأنه ليس طريقاً سهلاً".
كان يعرف أن أُسرته ستغمرها السعادة عندما تتلقى خبر وجود أحد أبنائها في أوروبا. "لديهم اعتقاد بأنني سوف أرسل إليهم أموالاً. هذا هو [الاعتقاد السائد] لدى معظم الأُسر: أنك هناك لكي تعمل وترسل المال (إلى الوطن). ولا يظنون أن العثور على عمل سيكون صعباً".
وتلعب مواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ترسيخ هذا الاعتقاد. فهناك قصص عن مهاجرين اقترضوا سلاسل ذهبية والتقطوا بعض الصور بجوار سيارات رياضية ثم أرسلوها إلى الأصدقاء والأُسرة في الوطن. وبعضهم يرسل حتى بدل الإقامة البالغ 40 يورو الذي يتلقونه كل شهر إلى الوطن أثناء إقامتهم في مراكز الاستقبال في إيطاليا انتظاراً لصدور قرار بشأن طلبات اللجوء الخاصة بهم.
لكن الأمين كان غامضاً بشأن ما سيفعله بالفعل بعد أن وصل إلى أوروبا. "إذا استطعت تعلم أي مهارات سأكون سعيداً. وظيفتي المثالية؟ أي نوع من الوظائف التي تتطلب مهارة التي أراها؛ عمل يتيح لي الحصول على المال وإعالة أسرتي".
معاناة الأسرة في الوطن
أما في بريكاما، فقد أصبح با الآن هو المعيل الرئيسي. والده محمود يعمل كمزارع، ويزرع الكاجو والذرة لاستهلاك الأُسرة.
"لقد عملت لمدة 20 عاماً كخياط، ولكنني ما زلت غير قادر على كسب ما يكفي من المال لتحسين معيشتنا. فدائماً ما يكون الأجر زهيداً،" كما يقول.
ويشكو با من أن أسعار المواد الغذائية ترتفع بسرعة كبيرة: "يصل سعر كيس الأرز إلى 1,000 دالاسي (25 دولاراً)، ولكن معظم الناس يكسبون ما بين 1,500 و2,000 دالاسي فقط في الشهر. إن الكفاح مستمر على الدوام هنا".
داخل منزلهم المتواضع، تتداعى الجدران المصنوعة من الجص. أما الأرضيات فمصنوعة من الخرسانة غير المغطاة، باستثناء أجزاء متفرقة من مادة اللينو البالية، وخزانة الملابس الخشبية الرثّة هي قطعة الأثاث الوحيدة في غرفة المعيشة.
"عندما ترين مجمعات سكنية أخرى هنا أفضل حالاً، فذلك يرجع إلى وجود أحد أفراد الأسرة في أوروبا. يمكنك أن تشاهدي الفرق في طريقة بنائها. بعضها منازل (مكونة من طابقين) وعليها ألواح شمسية. إذا كنت لا تستطيع تغيير الظروف المعيشية، ينبغي عليك تغيير بيئتك،" كما يقول با.
الأُسرة تدفع الثمن
وكان بابا جالو، صديق طفولة الأمين، يعرف خططه منذ البداية ويفهم سبب تركه لوظيفته والإقدام على المخاطرة التي قام بها.
"إن الأمر صعب للغاية هنا لأن أُسرتك تعتقد أنك بالغ [ويمكنك كسب المال] إذا كنت في المدينة، ولكن لا توجد وظائف جيدة هنا. ولهذا السبب يسلك الناس "الطريق الخلفي": لأنهم يشعرون بالضغط لإعالة أسرهم،" كما يقول بابا، الذي يبيع رحلات قصيرة على ظهور الخيل للسياح على الشاطئ.
ولكن أفراد الأُسرة هم أنفسهم المفلسون منذ البداية. وعلى الرغم من عدم اطلاعهم على خطط الأمين في بداية الأمر، إلا أنهم قبلوا التضحية المالية الهائلة في نهاية المطاف لدفع ثمن رحلته من ليبيا.
"لقد أرسلنا له 45,000 دالاسي (1,150 دولاراً)"، كما يقول با. "كنا نعرف أنها مخاطرة كبيرة (السفر بالقارب)، ولكننا كنا مضطرين لدعمه".
وأضاف قائلاً: "لقد خفضنا كل شيء كنا نشتريه بالمال إلى النصف - اشترينا نصف كمية الطعام - حتى نتمكن من الادخار للمساهمة في رحلة الأمين على متن القارب. لقد كانت تضحية كبيرة، ولكن الجميع يشعرون أنك إذا تخليت عن أرضك أو قُمت ببيع شيء ما، واستطاع أحد أفراد أسرتك الوصول إلى أوروبا، فإن الأمر يستحق التضحية".
وعند سؤالهم عن ما سيحدث إذا تم ترحيل الأمين إلى غامبيا، أطبق الصمت على الجميع. وفي النهاية، أجاب با قائلاً: "نحن لا نريد أن نفكر في ذلك. ولكن إذا حدث ذلك، سيكون هذا هو قدرنا".
وكان با يقف بجوار البئر في الفناء عندما باح بأنه هو أيضاً يفكر في سلوك "الطريق الخلفي": "إذا لم يكن الأمين قد سافر، لسافرت أنا. إنني أنتظر فرصة للذهاب أيضاً".
ويتفق معه الأخ الأصغر بامبو ويقول بحماس: "إنه لأمر رائع أنه في أوروبا".
ويقيم الأمين حالياً في فندق في إيطاليا، انتظاراً لصدور قرار بشأن طلب اللجوء الذي تقدم به. ولم يرسل بعد أي أموال إلى أسرته.
* تم تغيير جميع الأسماء
تحرير: كريستي سيغفريد وأوبي أنياديكي وأندرو غالي
صورة الغلاف: لويز هانت. الفيديو: تصوير جيسون فلوريو/محطة المساعدة البحرية للمهاجرين ومونتاج ألكس بريتز. الصور الإضافية: جيسون فلوريو ولويز هانت
نُشرت النسخة العربية في 21 أكتوبر 2015