تعلم الأطفال والنساء التعرف على الصوت المميز لقاذفات القنابل الأوكرانية الصنع من طراز أنتونوف والتابعة لسلاح الجو السوداني قبل رؤيتها بوقت طويل. فبقاؤهم على قيد الحياة يعتمد على ذلك، ينظرون بخوف صوب السماء، ويركضون نحو خنادقهم للاحتماء بها.
ويرافق القصف المستمر بلا هوادة حملة الأرض المحروقة التي تهدف إلى تدمير المحاصيل، وتفكيك المجتمعات، وتجويع قوات المتمردين لإجبارها على الاستسلام. وقد اعتاد آلاف المدنيين على المعيشة في الكهوف، التي تعتبر الملجأ الوحيد من القنابل والعنف العشوائي.
مرحباً بكم في منطقة جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان السودانية، حيث ترفض أقلية مضطهدة منذ فترة طويلة وأصبحت في طي النسيان إلى حد كبير أن تُطرد من أرضها.
يقول الرئيس السوداني عمر البشير ونظامه في الخرطوم أنهم يقاتلون حركة تمرد في جنوب كردفان يقودها أصحاب المصالح الخاصة والمتآمرون الغربيون الذين يريدون الإطاحة بحكومته. أما سكان النوبة فيقولون أنهم يقاتلون من أجل بقائهم على قيد الحياة.
"كل مواشينا وملابسنا وطعامنا وأسرتنا وحتى المنازل التي ننام فيها - لم يتبق منها شيء. لقد أحرقوا كل شيء. لقد جئنا حفاة القدمين. لم يكن لدينا أي شيء سوى هذه الكهوف التي نظفناها ونعيش فيها الآن،" كما أفاد قروي نازح من النوبة فضل عدم الكشف عن هويته في حوار مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).
من جهتها، قالت نجوى كوندا، مديرة منظمة النوبة للإغاثة وإعادة التأهيل والتنمية - وهي منظمة غير حكومية محلية تكافح لتلبية الاحتياجات الماسة لمنطقة النوبة، أن الأمل في منطقتها يتلاشى. وأضافت في حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أن "هناك حالة إنسانية كارثية تحدث الآن في جبال النوبة".
وأكدت أن "الأطفال في جبال النوبة يعانون من القصف الجوي اليومي، ومن الجوع، ويموتون من أمراض يمكن الوقاية منها. وتقع المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي للتدخل من أجل حماية هؤلاء الأطفال".
وأفادت أن "النساء يعانين أيضاً. إنهن يمشين لمدة ساعة أو ساعتين لجلب خمسة غالونات من الماء، ثم يجدن عند عودتهن أن قنبلة إما قتلت أطفالهن أو أحرقت منازلهن".
حكايات الحرب في أماكن مثل سوريا والعراق لا تنقطع من العناوين الرئيسية، ولكن الموقف المروع والمتفاقم في ولاية جنوب كردفان، المحرومة من المساعدات الإنسانية ولا تضم سوى مستشفى واحد، نادراً ما يرد ذكره. وعندما يُذكر السودان في الأخبار، عادة ما يكون ذلك فقط بسبب الحرب الأهلية في دولة جنوب السودان المجاورة، حيث لقي ما بين 50,000 و100,000 شخص مصرعهم خلال 18 شهراً من النزاع.
وعلى سبيل المقارنة، فإن عدد القتلى في جنوب كردفان، الذي بلغ 4,500 على مدار أربع سنوات، يبدو ضئيلاً. ولكن بالنسبة لشعب جبال النوبة، يُنظر إلى هذا الصراع على أنه تهديد وجودي. وهم يعتقدون أن الرجل حاول إبادتهم من قبل.
من الظلم إلى الإبادة
والجدير بالذكر أن النوبة، التي يتراوح عدد سكانها بين مليون ومليوني نسمة، هي مجموعة من الشعوب المتميزة من أصل أفريقي أسود يتحدثون مجموعة من اللغات المختلفة. ويعتنق الكثيرون منهم الإسلام الآن، ولكن هناك نوبيين مسيحيين وأرواحيين أيضاً.
وجنباً إلى جنب مع عدد قليل من القبائل الرعوية العربية، يعاني سكان النوبة من سوء الحظ الجغرافي الذي جعلهم يعيشون على خط الصدع بين شمال السودان العربي والإسلامي إلى حد كبير، والجنوب الأفريقي الأسود الذي تسكنه غالبية من المسيحيين والأرواحيين.
وترجع أصول القمع الذي يتعرضون له إلى عهد الاستعمار عندما فصلهم البريطانيون، وأعلنوا أن منطقة جبال النوبة هي "منطقة مغلقة" خاصة. ولم يُسمح للنوبيين بالتوجه شمالاً دون تصريح خاص، وتُركت المسؤولية عن الدراسة للمبشرين.
وعندما تخلص السودان من الحكم البريطاني عام 1956، كانت النوبة مهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بالفعل وتفتقر إلى أي نظام تعليمي. وخلال السنوات الثلاثين التالية، اجتاحت الحرب الأهلية السودانية الأولى أجزاءً كبيرة منها، وشهدت اتساع الهوة نظراً لانتهاج الأنظمة المتعاقبة في الخرطوم سياسات التمييز العنصري ضد النوبيين والشماليين السود الآخرين.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية السودانية الثانية عام 1983، كان للرسالة البديلة عن المساواة والدمج التي وجهها الجيش الشعبي لتحرير السودان الجنوبي وقائده العام جون قرنق ذي الشخصية الكارزمية صداها لدى قادة النوبة. وبحلول عام 1987، كان التحالف بين الطرفين قد تشكل. ونقل قرنق المعركة شمالاً عبر ولاية جنوب كردفان في وسط البلاد، وأصبحت جبال النوبة أحد المعاقل الرئيسية للمتمردين.
وبعد استيلائه على السلطة كقائد عسكري برتبة عميد في انقلاب عسكري في يونيو 1989، بدأ البشير يترأس دولة إسلامية متشددة على نحو متزايد. ودفع النوبيون ثمناً باهظاً للغاية بسبب مقاومتهم.
وتم دمج الميليشيات والقوات شبه العسكرية العربية، التي كانت معتادة بالفعل لفترة طويلة على شن حملات الأسلمة نيابة عن الخرطوم، رسمياً في الجيش السوداني وقوات الدفاع الشعبي. وتم إعلان الجهاد في جنوب كردفان، ونصت فتوى بشكل واضح على أن حتى النوبيين المسلمين لن يكونوا بمنأى عن الاستهداف.
واضطر النوبيون المسيحيون والأرواحيون إلى دخول ما يسمى "معسكرات السلام"، جنباً إلى جنب مع أي مسلمين متعاطفين مع الجيش الشعبي لتحرير السودان. وأصبحت النساء والفتيات "زوجات مؤقتات" للمقاتلين الموالين للبشير. وتم تشجيع الاغتصاب الذي كان يتم بشكل روتيني. كما تم اختطاف الأطفال والشبان وبيعهم كعبيد.
وفي نهاية المطاف، قُتل عشرات الآلاف واُجبر مئات الآلاف على الفرار من منازلهم فيما تعتقد جماعات حقوق الإنسان والعديد من المراقبين أنه محاولة "تطهير عرقي" لولاية جنوب كردفان من الشعب النوبي عن طريق حملة منظمة من القتل والاغتصاب وإعادة التوطين.
من الحرب الأهلية إلى المزيد من الحروب
وبعد فقدان ما يقرب من مليوني شخص في جميع أنحاء السودان، تم التوصل أخيراً إلى اتفاقية السلام الشامل التي وضعت نهاية للحرب الأهلية في السودان بعد 22 عاماً في يناير 2005.
وبينما دخل سلام هش بين الشمال والجنوب حيز التنفيذ، اندلع صراع منفصل في منطقة دارفور في غرب البلاد من نفس جذور النظام الفيدرالي الفاشل وإهمال أطراف الدولة.
وبموجب شروط اتفاق السلام الشامل، أصبحت النتيجة الساحقة لاستفتاء يناير 2011 إيذاناً ببدء استقلال جنوب السودان، ولكن المناطق المتنازع عليها، وهي أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان، ظلت تحت سيطرة الخرطوم لحين إجراء المزيد من "المشاورات".
وكانت وفاة قرنق في حادث تحطم طائرة هليكوبتر في يوليو 2005، بعد أقل من سبعة أشهر على توقيع اتفاق السلام الشامل، بمثابة ضربة قوية لجنوب كردفان لأن زعيم المتمردين السابق، الذي كان في ذلك الحين يشغل منصب نائب رئيس البلاد، كان من المتوقع أن يضغط بشدة على الخرطوم للوفاء بوعودها بمنح قدر أكبر من الحكم الذاتي.
وفي 9 يوليو 2011، أصبح جنوب السودان أحدث دولة في العالم. من بعيد، كان هناك شعور بالتفاؤل وبعض الابتهاج، وأمل بالتأكيد في أن تاريخ الحرب يمكن استبداله بسرد أكثر إشراقاً. ولكن حتى عندما كان العالم يصفق، كانت القنابل تتساقط مرة أخرى على شعب جبال النوبة واندلع الصراع الذي لا يزال يهيمن على جنوب كردفان اليوم.
وكانت ولاية جنوب كردفان منذ عام 2009 تخضع لرئاسة الوالي أحمد هارون الذي يحظى بثقة البشير - وكان يواجه اتهامات من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتدبير فظائع في دارفور، مثل البشير. ونظراً لعدم تحقق الوعود بعقد مشاورات حول قدر أكبر من الحكم الذاتي، ازداد السخط. وعندما أُجريت الانتخابات المحلية المعطلة في نهاية المطاف في مايو 2011، وفاز هارون على قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان السابق عبد العزيز الحلو بـ6,000 صوت فقط، ادعى المتمردون السابقون أن مخالفات شابت الانتخابات.
واشتعل فتيل الأزمة عندما طُلب من الـ20,000 مقاتل التابعين للجيش الشعبي لتحرير السودان المتبقين في الشمال نزع سلاحهم قبل استقلال جنوب السودان، ورفضوا هذا الطلب.
وفي 5 يونيو 2011، دخلت ولاية جنوب كردفان في حالة حرب مرة أخرى.